منتديــــــــــــات الشلة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديــــــــــــات الشلة

تجد هنا ما لم تجدها هناك
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 حياة من طين

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
نو ر الجيزاوي




عدد الرسائل : 3
العمر : 44
تاريخ التسجيل : 24/01/2007

حياة من طين Empty
مُساهمةموضوع: حياة من طين   حياة من طين Icon_minitimeالأربعاء يناير 24, 2007 6:01 am

حيـــــــاة من طين


- ( يا فتاح يا عليم، يا رزاق يا كريم، اعتمدنا عليك يارب )

كانت هذه أول جملة نطق بها ( (عم سليمان)) حينما استيقظ من نومه، توضأ وصلى الصبح، ثم مد يده إلى مسمارٍ بارز خَلفَ ذلك الباب المتهالك والذي يصدرأزيزاً كلما تحرك، وكأنه شيخ عجوز يئن من الآم المفاصل التي يصاب بها المتقدمون في السن، كانت هناك فوق ذلك المسمار جلبابه البالية ذات اللون البني المائل للاحمرار، حملها بين كفيه في هدؤ، كان رفيقاً بها وكيف لا يكون كذلك وهى التي وقته شر البرد والعواصف الرملية التي تهب في ليالي الشتاء الطويلة والتي تغطي كل أرصفة (الخارجة)*.

نفَّضَ عنها ذراتَ الرمالِ المتناهيةُ في الصغر... داعبها بأصابعهِ... أولجَ ذراعيه في كُميها... انهالت فوقَ جسدهِ المُرهَق، استقرتْ فوقَ قدميه.

الحذاءُ لايزالُ يغطُ في نومٍ عميقْ؛ يستمتعُ بسكونهِ تحتَ هذه الأريكةُ التي تشتاقُ إلي جسدِ صاحبها الذي يعزُعليه النومُ كثيراً نظراً لإنشغالهِ بهمومِ أسرتهِ التي لا تنتهي.

ما زال الحذاءُ المصنوعُ من القماشِ هناك- بعيداً- عند أبعد نقطةٍ للضوءِ، تقريباً كان ملامساً للحائطِ المبني بالبلوك* يستمتع ببردودته وبظلامِ الظلِ الكائنُ تحت الأريكة.

مد يده إليه... هرب منه... بالكاد وصلت إليه أنامله، أجبره على الخروج من عزلته ليجوبا سوياً الطرقات الرملية الطويلة.

ليس هناك المزيد من الملابس، خرج من الباب في هدؤ... زوجته كانت هناك فى هذا الفناء المتسع تلقي الحبوب للطيور، بعدما انتهت من ترتيب المنزل وشطف الأواني بقليل من الماء بعد دعكها بالرمال.

- (بهدؤ) صباح الخير.

- (مبتسمه) صباح النور يا خويا، خمس دقايق وأكون محضرالك الأكل.

جلس (عم سليمان) على أريكة أخري في بهو المنزل وامتدت يده إلى راديو صغير كان فوق النافذة بجوار ( قلتين) من الفخار عاديتين جداً صنعهما (عم سليمان) ليستخدمهما في حفظ الماء الذي يأتي بمواعيد محددة في بلدته، شرب رشفة ماء بارده وحمد الله، ثم أخذ يحرك مؤشر المحطات بحثاً عن محطة إذاعة القرآن الكريم، دخلت عليه زوجه تحمل بين يديها صينية صغيرة يرقص فوق سطحها طبق الفول بالسمن البلدي، وبجواره بيضتين بلدي، وفحل بصل أخضر ليدقه (عم سليمان) بيديه، لينعم بافطار شهي غير مهتماً بما يقال عن مشاكل السمنه المفرطة وما إلى ذلك.

- اتفضل يا حج، بالهنا والشفا مطرح ما يسري يمري، شوية فول عليهم معلقتين سمن بلدي انما ايه يستاهل بقك.

- طيب... فيكي بركة ( أخرجَ من جيبهِ عملةً ورقية) خدي خمسة جنية أهُم، اعمليلنا شوية عَدَس ولا شوية بُصارة، أي لقمة والسلام.

- من عنيا يا أخويا ربنا يخليك لينا، تروح وتيجي بألف سلامة.

هكذا كانت زوج (عم سليمان)، بشوشة دائماً تغلف طعام (عم سليمان) بغطاء من الكلام الحريري الناعم منذ أن تزوجا وهي تمارس نفس العملية الانسانية دون كلل أو ملل حيث أنها ورثت من أها الكثير والكثير من فنون الحفاظ على الأسرة، كان إكليلاً من زهور الكلام وضعته في صندوقها مع ملابسها منذ أن كانت عروس إلى الآن.

يأكل (عم سليمان) لقمة، ويومء برأسهِ منتشياً (الله الله الله) تفرح زوجه إعتقاداً منها بأن (عم سليمان) قد أعجبه الطعام، و(عم سليمان) مشغولاً بما يسمعه من القرآن الكريم، يفرغ (عم سليمان) من طعامه ويحمد الله وينهض علي ساعديه بنشاط وحيوية وكأنه شاب في مقتبل العمر .

- (لزوجته) بقولك ايه... البت سعاد صحيت ولا لسا؟

- لا صحيت يا خويا من بدري، بتغير هدومها وتطلع على طول.

- والله البت دي إن شاء الله رزقها هيبقى واسع قوي، وربنا هيكرمها أخر كرم، أصلها سخية وشاطرة، عشية عملت حتة زهرية إنما ايه... كل اللي في المصنع اتهبل عليها.

- (ضاحكه) يعني يا اخويا هتطلع لمين؟... طالعه لابوها في شطارة الشغل، ولامها في البيت وعلي رأي المثل... اقلب القدرة على فمها... تطلع البت لأ مها..(في دلال) ولا مش كده يا سليمان

- (ضاحكاً) لا يا اختي كده وستين كده كمان... (مداعباً لها) دا انت ست الكل. (يمد يده ليلمس خدها) ونور عنيا كمان

- (يحمر وجهها خجلاً، وتحاول أن ترفع يده عنها) سليمان... يوه يا سليمان... يا راجل احنا كبرنا على الحاجات دي، وبعدين العيال هتصحى دلوقت علشان يطلعو على أشغالهم، اتوكل على الله.

- تخرج سعاد من باب المنزل وهي منطلقة؛ يدفعها شبابها أن تنطلق لتسبق الريح ويسافر نظرها إلي بعيد نحوقمة الجبل المواجه لمنزلهم، تتوقف عينيها عن النظرإلى قمةالجبل عندما تسقط نظراتها علي أبيها وهو يتعجلها للذهاب إلى مصنع الخزف.

- ايه يا سعاد النهار هيفوت يا بتي وانت بتدلعي... شدي حيلك شوية خلينا نوصل قبل الشمس ما تحمى

- حاضر يا ابويا، انت علي طول كده، يعني هي خلاص الدنيا هتطير

- ( ضاحكاً) لا يا غلاباويه يا أم لسانين، النهار هو اللي هيطير وبعدين مش هنلحق نعمل حاجة، وبعدين عاوزين نخلص بدري النهارده علشان نروح نشتري طلباتك اللي انت عاوزاها خلينا نخلص من جهازك وتتجوزي وتخلصينا، خلينا نفوق للي بعدك

- يا سلام يا اخويا يا سلام... يعني هو انا اشتكيت لك وقلت لك عاوزه اتجوز.

- طيب يا غلباويه... يللا بينا يمكن نقابل خطيبك في الطريق، أخليه يروح يجيب لي دوا الضغط... الواد ده لهلوبه، مش عارف بيجمع الدوا ده منين.

خرج (عم سليمان) وسعاد ذات الخمسة والعشرون ربيعاً، يقطعان طريقاً رملياً شاقاً، وكأن الشمس قد انقسمت نصفين، نصف يغيب ونصف يشرق، نظرةٌ للماضي ونظرةٌ للغد وطريقٌ واحدٌ لمصنع الخزف الكائن خارج البلدة.

الهدؤ يلف (الخارجة)* بين ذراعيه، ليس هناك صوت سوا الريح حينما يداعب جريد النخل، فيبتسم البلح إبتسامة براقة توحي بموسم جني متميز، لتنعم سعاد بحياة زوجية سعيدة هادئة لها طعم العجوة الذي يَََُصدّر من الخارجة إلي جميع المحافظات المصرية وإلي الخارج أيضاً.

هناك منزل صغير تجلس أمامه إمرأة عجوز تقترب من عمر(عم سليمان) الذي اقترب من السبعين، تصنع من سعف النخيل (مقطف)* أو مقطفين، تبيعهما للمقربين مقابل القليل من الجنيهات حتى تستطيع أن تعيش وتواجه الحياة ف(معاش السادات)* لا يكفي لمواجهة الحياة خاصة وأن أم محمد تدخن بشراهة، إقترب منها (عم سليمان):

- صباح الخير يا أم محمد، ازيك يا فاطنة*(فاطمة) عاملة ايه النهارده؟

- (شاردة) الحمد لله يا سليمان، الولاد عاملين ايه؟

- معدن الحمد لله بخير، انما قولي لي... مالك كده؛ شكلك مهستك ووشك مصفر، خير... مالك يا فاطنة؟

- ( متألمة) والله يا سليمان أنا طول الليل عيني ما غمضت، وصدري بيزيق* ومش قادرة أخد نفسي.

- (معاتباً لها) ماهو من السجاير يا فاطنة، انت بتحرقي سجاير كتير، انت حد مصلَّتك على نفسك يا وليه؟

- ماحدش خالي من الهم يا سليمان، البيوت جواها كتير يا خويا.

- هَم؟ ... هَم ايه اللي انت بتتكلمي عنه ،( يبتسم بسخرية) والله عجايب، فاطنة أم محمد بتتكلم عن الهم، دا انت بسم الله ماشاء الله عليكي، زي ما تكوني لسا صبيه، ولاكأنك بنت عندها عشرين سنة، زي ما يكون الزمن نسيكي، انت بس بتبعدي العين عنك.

- لا والنبي يا سليمان، انا قاعدة ابكي طول الليل .

- ليه خير يا فاطنة مالك، بتبكي ليه يا أم محمد؟

- خايفه يا سليمان، خايفه أموت وما اشوفش ولدي مغاوري.

- لا حول ولا قوة الا بالله، بعد الشر عليكي يا ولية، ربنا يجيبهولك بالسلامة قادر يا كريم.

- عشرين سنه يا سليمان والواد متغرَّب، ملعون أبو الغربه اللي تخلى الواحد يسيب بلده وناسه وأمه العمر ده كله، انا خلاص كبرت، والعمر خلاص رايح مش جاي ومش هنعيش كد اللي عشناه .

- استغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم، وحَّدي الله يا فاطمة واستغفري ربنا، الأعمار بيد الله، بلاش تكفري يا وليه، الغايب حجته معاه .

- حجة ايه وزفت ايه، انا عاوز اشوفه يا سليمان وأملّي عنيا بصورته... وحشني قوي ( تنهار باكية).

- ( مواسياً لها) بس بس يا أم محمد وحدي الله، حرام عليكي نفسك، وبعدين انا مش متعود اشوفك كده،( مبتسماً) انت طول عمرك الضحكة مش بتفارق وشك، خبرايه يا وليه جرى لك ايه عاد.

- (تحاول أن تخرج من حزنها وتمسح دموعها) روح يا سليمان انت على شغلك لحسن تتأخر على ميعادك وأنا هبقى كويسه، ماتخافش يا اخويا عمر الشقى بقي.

- شغل ايه بس وبتاع ايه، ما احنا طول عمرنا بنشتغل عملنا ايه يعني، جبنا الديب من ديله، احنا مش عاوزين غير الستر.

- يا اخويا ربنا يسترها معاك دنيا وأخره ويباركلك في صحتك وعيالك، يللا قوم عاد، اتوكل على الله

- حاضر يا فاطمة، اديني قايم، بس بقولك ايه: روحي انت لأم سعاد علشان سألتني عليكي عشيية فى الليل.

- خير إن شاءالله، مالها؟

- ما انت عارفه انها مش بتعرف تروح ولا تيجي من غيرك، وتلاقيها عاوزه تنزل السوق علشان تجيب حاجات لجهاز سعاد.

- حاضر من عنيا يا خويا ربنا يتمم لها على خير، وتفرح بعيال عيالها.

- العيال كبرونا قوي يا فاطمة.

- (تعود لطبيعتها وتبتسم إبتسامة هادئة) لا يا أخويا انت اللي كبرت انا لسا في عز شبابي.

- طيب يا أختي ، ربنا يديكي الصحة ، هه ... أقوم أنا عاد ، سلام عليكم

- مع ألف سلامة يا أخويا ربنا يديك الصحة وطول العمر ومايحرمنيش من طلتك عليَّ يا أصيل يا اين الأصول.

تودع فاطمة (عم سليمان) بهذه الكلمات، ثم يعود إلي سعاد التي جلست ملتزمة الصمت حينما كان أبيها يتحدث مع فاطمة وعيناها ما زالت تتسلق قمة الجبل في نظرة شاردة تماماً. أسئلة كثيرة تطوف بذهنها؛ ماذا هناك خلف هذا الجبل؟!

هناك خط أسود طويل يشق الرمال، ليس له نهاية محددة، هناك سيارات تمر، تراها سعاد متناهية فى الصغر، حجمها مثل علبة الثقاب، من أين تأتي وإلى أين تذهب؟

هل ركب مغاوري أحد هذه السيارات وغادر ؟ لكن إلى أين؟ أهي بلاد أعظم من بلادنا؟ تري كيف يكون النخل فى هذه البلاد؟ وهل هناك نخل ؟ ما لون الرمال، أم أنهم لا يمشون فوق الرمال، العديد من الأسئلة، ولا إجابة ، ليس هناك متسع من الوقت فالآن استقرا هي وأبيها أمام المصنع(مصنع الخزف بالوادي الجديد) أكوام من الطين، وأكوام من الأواني الفخارية التي حُرقت والتي لم تحرق بعد، تنسي سعاد ما كان يشغل ذهنها ، وينسى أبيها سعاد وفاطمة، وفي حركة اتوماتيكية يتجه إلى مسمارٍ آخر بارز مثبت في حائطٍ حجريٍ آخر، فيخلع جلبابه ليستقر فوق ذلك المسمار، يشمر عن ساعديه، يتناول قطعةً من الطين بين كفيه ، يضعها فوق ذلك القرص المستدير،يحركه بقدمه من خلال قرص آخر بالقرب من قدميه، يحاوره... يداعبه... يبث له أحزانه وهمومه، يسأله مئات الأسئلة، يخرج الطين من صمته ليقدم إجابات رمزية لا يفهمها أحد فيتصل الطين أحياناً وينفصل أحيانا ، يكون سهلاً ليناً تارة ، ويأبي التشكيل بين يدي (عم سليمان) تارة أخرى، على الجانب الآخر كانت سعاد مشغولة بأسئلة أخري، والطين مازال يجيب على كل التساؤلات دون كلل أو ملل. إن الأسئلة هنا كثيرة والإجابات الطينية أكثر لكن تستطيع ، تستشعرها في كل قطعة فنية تخرج من بين أصابع (عم سليمان) وسعاد وكل من حولهم من عمال في هذه الحياة الطينية.





الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
حياة من طين
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديــــــــــــات الشلة :: ادبيــــــــــــــــــــــــــــــــــــات :: منتــــــــــــــــتدى القصص-
انتقل الى: